مستقبل مراكز مصادر التعلّم في ظل الذكاء الاصطناعي

 

 

خميس بن سعيد بن سالم الحربي

k.s.s.alharbi@moe.om

 

في إحدى المرات استوقفتني عبارة وردت في كتاب يتحدَّث عن مكتبات المُستقبل "انظر جيدًا قبل عبور الشارع ثم انطلق"، ورغم بساطتها، إلّا أنني أراها تجسد جوهر المرحلة التي نعيشها اليوم في مراكز مصادر التعلّم؛ فقبل أن نعبر نحو المُستقبل، علينا أن نتأمل واقعنا بصدق، ثم نخطط بحكمة، لننطلق بثقة في عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي.

لقد شهد العالم تحولات جذرية في مفهوم المكتبات ومراكز مصادر التعلّم؛ فلم تعد هذه المراكز مجرد أماكن لتخزين الكتب، بل أصبحت فضاءات معرفية رقمية، ومنصات للتعلم الذاتي، والتفكير النقدي، والإبداع، وبناء مهارات المستقبل، ومع ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وغيرها، أصبح الوصول إلى المعلومة أسرع من أي وقت مضى؛ مما يفرض على هذه المراكز إعادة ابتكار دورها، بدلًا من التمسك بنموذجها التقليدي، كما يخشى البعض أن تصبح مراكز مصادر التعلّم كيانًا قديمًا مع تراجع استخدام المصادر الورقية وازدياد الاعتماد على المصادر الرقمية، وهذا الخوف وإن كان مشروعًا قد يدفع صناع القرار إلى التقليل من أهمية هذه المراكز، مما قد يؤدي إلى تراجع مستوى الدعم، وضعف توفير الكوادر المتخصصة، وتقليص الاستثمارات في تطويرها ومع ذلك، فإنَّ الخطر الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في الجمود وعدم القدرة على التكيف معها.

من وجهة نظري.. فإنَّ المستقبل لن يُطيح بمراكز مصادر التعلم؛ بل سيُعيد تشكيلها، فلن يبقى أخصائي مصادر التعلم مجرد مسؤول عن الكتب والأجهزة؛ بل سيصبح واضعًا لسياسات استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وحارسًا لأخلاقيات المعلومات، ومحفزًا على الابتكار، وموجهًا للطلبة في مواجهة الانتحال والابتزاز الإلكتروني، وشريكًا في بناء عقلية رقمية ناقدة وواعية.

كما إنَّ الدور القادم لأخصائي مصادر التعلم هو دور قيادي، وتربوي، وثقافي، وليس تقنيًا فحسب؛ فالمعرفة اليوم متاحة للجميع، لكن القدرة على التمييز بين الموثوق والمضلل، وبين الإبداع والنسخ، وبين التفاعل والتشتت، هي المهارة الحقيقية التي ينبغي أن نغرسها في الأجيال.

تُظهر العديد من الدراسات أنَّ وجود برامج مكتبية قوية تدار من قبل أمناء مؤهلين يسهم في رفع معدلات القراءة والكتابة والنجاح الأكاديمي وفي المقابل، تكشف بيانات عامي 2021-2022 في الولايات المتحدة أن 35% من المناطق التعليمية لا يوجد فيها أمين مكتبة مدرسي، وأن 35% أخرى تعتمد على أمين بدوام جزئي فقط، مما يؤثر سلبًا على أكثر من 12 مليون طالب، حيث إن هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي رسالة تحذيرية واضحة حين نتجاهل مراكز مصادر التعلم، فإننا ندفع الثمن تربويًا وثقافيًا.

الحقيقة أننا أمام مفترق طرق: إما أن نعيد تشكيل مراكز مصادر التعلم لتصبح بيئات رقمية مبتكرة تقود التغيير، وإما أن نتركها تتراجع حتى تتحول إلى مساحة مهجورة لا قيمة لها في العملية التعليمية ولا يتفاعل معها أحد، كما إن الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا؛ بل فرصة لبناء جيل باحث، ناقد، مبدع، يمتلك أخلاقيات رقمية، ويستخدم التقنية بوعي ومسؤولية.

** مشرف مصادر التعلم بالتربية والتعليم

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة